جيرترود بيل إليون: رائدة الطب اليهودية التي غيرت مسار العلاج الكيميائي
.
.
في تاريخ العلوم، توجد شخصيات استثنائية لم تكتفِ بتغيير مجالاتها، بل غيّرت حياة البشرية بأكملها. ومن بين هذه الشخصيات، تبرز العالمة اليهودية جيرترود بيل إليون، التي يُنظر إليها اليوم كواحدة من أهم الرائدات في مجال الطب والصيدلة. لم يكن طريقها سهلاً، فقد واجهت تحديات كبيرة كامرأة في عالم يسيطر عليه الذكور، لكن تصميمها وعبقريتها قاداها إلى اكتشافات غيرت مسار علاج أمراض قاتلة مثل السرطان، وشجعا على طرق جديدة لتطوير الأدوية.
.
النشأة والتحديات الأولى
وُلدت جيرترود إليون في نيويورك عام 1918 لعائلة من المهاجرين اليهود. كانت طفولتها مليئة بالشغف بالتعلم، لكن حادثة أليمة غيرت مجرى حياتها: وفاة جدها بمرض السرطان. قررت إليون وهي في الخامسة عشرة من عمرها أن تكرس حياتها لمكافحة هذا المرض، وهو القرار الذي سيشكل دافعها الرئيسي لعقود قادمة.
حصلت إليون على شهادتها الجامعية في الكيمياء بامتياز من كلية هانتر، ثم أكملت دراستها العليا في جامعة نيويورك. ولكن مع بداية مسيرتها المهنية، واجهت عقبات كبيرة. ففي ذلك الوقت، كان من الصعب على النساء الحصول على مناصب أكاديمية أو علمية مرموقة. قوبلت طلباتها المتكررة للعمل في المختبرات بالرفض، فاضطرت للعمل في وظائف متواضعة كمعلمة كيمياء ومساعدة في معمل. لم يكن لديها خيار سوى أن تثبت نفسها من خلال إصرارها على التعلم والبحث.
.
شراكة غيرت وجه العلم
في عام 1944، تغيرت حياة إليون عندما انضمت إلى مختبرات شركة Burroughs Wellcome (التي أصبحت فيما بعد جزءًا من شركة GlaxoSmithKline). هناك، التقت بمرشدها وزميلها المستقبلي جورج هيتشينغز، الذي كان يشاطرها رؤيتها في تطوير الأدوية. كان هيتشينغز يؤمن بمنهجية ثورية: بدلاً من تجربة الأدوية بشكل عشوائي، يجب أن يتم تصميمها بناءً على فهم دقيق للعمليات الكيميائية الحيوية داخل الخلايا.
عملت إليون وهيتشينغز كفريق واحد لأكثر من أربعين عامًا. كانت هذه الشراكة الذهبية أساسًا لسلسلة من الاكتشافات التي حوّلت الطب الحديث. ركز الاثنان على دراسة كيفية بناء الأحماض النووية (DNA و RNA) داخل الخلايا، وهي العملية الأساسية لنمو الخلايا وتكاثرها. كان هدفهما هو إيجاد مركبات يمكنها التدخل في هذه العملية، وبالتالي إيقاف نمو الخلايا المريضة أو الميكروبات دون الإضرار بالخلايا السليمة.
.
اكتشافات أيقونية وإرث لا يُنسى
من خلال عملهما الدؤوب، نجحت جيرترود إليون وفريقها في تحقيق عدة اختراعات طبية رائدة:
* علاج سرطان الدم: في الخمسينيات، طورت إليون بالتعاون مع هيتشينغز دواء 6-ميركابتوبورين (6-MP)، الذي أصبح أول علاج فعال لسرطان الدم لدى الأطفال. كان هذا الدواء طفرة حقيقية، حيث رفع معدلات البقاء على قيد الحياة بشكل كبير، وحوّل مرضًا كان يُعتبر حكماً بالإعدام إلى مرض قابل للعلاج.
* أدوية زراعة الأعضاء: أدى عملها على مثبطات الأحماض النووية إلى تطوير دواء أزاثيوبرين، وهو أول دواء مثبط للمناعة يُستخدم في زراعة الأعضاء. ساعد هذا الدواء على منع رفض الجسم للأعضاء المزروعة، مما جعل عمليات زراعة الكلى وغيرها من الأعضاء ممكنة وناجحة بشكل لم يكن ممكناً من قبل.
* علاجات النقرس والملاريا: لم تتوقف إنجازاتها عند هذا الحد، فقد قامت بتطوير أدوية أخرى مثل الوبيورينول لعلاج النقرس، والبيريميثامين لعلاج الملاريا.
* الأدوية المضادة للفيروسات: في وقت لاحق من حياتها المهنية، كان لإليون دور حاسم في تطوير أول علاج فعال للهربس وهو دواء الأسيكلوفير. فتح هذا الدواء الباب أمام تطوير فئة جديدة من الأدوية المضادة للفيروسات.
.
جائزة نوبل والتكريم العالمي
تقديرًا لجهودها التي غيرت وجه الطب، حصلت جيرترود إليون على جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء عام 1988، بالاشتراك مع جورج هيتشينغز وسير جيمس بلاك. كانت هذه الجائزة تتويجًا لمسيرة مهنية حافلة بالاكتشافات التي أنقذت حياة الملايين.
بعد تقاعدها، لم تتوقف إليون عن خدمة العلم، بل استمرت في العمل كمستشارة علمية، وألهمت أجيالاً من العلماء الشباب. حصلت على الميدالية الوطنية للعلوم عام 1991، وتم إدراجها في قاعة مشاهير المخترعين الوطنية.
كانت جيرترود إليون أكثر من مجرد عالمة؛ كانت رمزًا للإصرار والمثابرة في وجه التحديات. إرثها لا يقتصر على الأدوية التي اكتشفتها، بل يمتد ليشمل المنهجية التي أرستها في تطوير العلاجات، والتي لا تزال تُستخدم حتى اليوم. لقد أثبتت أن الشغف بالمعرفة يمكن أن يتغلب على أي عائق، وأن إسهاماتها في عالم الطب لا تزال تخدم الإنسانية كل يوم.
.